
تقول الآية الكريمة “ و جاءت سكرة الموت بالحق ، ذلك ما كنت عنه تحيد “ صدق الله العظيم. كم شدتني هذه الآية و كلماتها الغير عادية منذ طفولتي، و كم سمعتها يتردد مراراً و تكراراً في أذني!! و في البدأية وجدت في الآية معني غامضاً بالنسبة لي، سرعاناً ما أنقلب الي أحساساً غامضاً في نفسي و علاقة أكثر غموضاً بهذه الآية الغير عادية في كلماتها و معانيها. و لقد وُلد من هذا الأحساس الغامض و من تلك العلاقة الأكثر غموضاً معني جديد في حياتي، أخذ ينمو و يتبلور في نفسي. أنه معني قد يبدو غريباً للكثيرين، و لكني سأحاول أن أشرحه بشكل بسيط.لقد رأيت أغلب الناس يفزعون و يجزعون عند سماعهم للآية، و وجدت ان سبب فزعهم و جزعهم هو كلمة “و جاءت سكرة الموت بالحق “ فما أن يستمعون الي تلك العبارة أو الجملة حتي يفزعون و تظهر عليهم الرغبة الجادة في الفرار من الجملة أو بمعني أصح من سكرات الموت، و لم يدهشني هذا، حيث أنني أعرف مدي حب الأنسان للحياة و كراهيته للموت. و لكني أُدهش عندما يستغرب الناس من فزعي من سكرات الحياة. نعم هذا هو المعني الذي ولد بداخلي من سنوات عدة بسبب احساسي الغامض و علاقتي الأكثر غموضاً بالآية. نعم ، أنني أعتقد أنه كما أن هناك للموت سكرات، فأنه للحياة سكرات و سكرات و ما أكثرها و ما أشقنا بها.أنها لحظات تمر بنا في حياتنا بصورة مستمرة و مزعجة في كثير من الأحيان، و مريحة في أحيان قليلة. أنها لحظات يختلط فيها الشقاء بالراحة،........ و الرغبة بالحرمان ،....... و العذاب بالأسترخاء...... و الأخلاص بالخيانة......و الصدق بالكذب و الزيف......و الحب بالكراهية........و الأخلاق بالأنحطاط...... و الصمت بالضوضاء و الأزعاج.......و الجمال بالقبح.............و الحياة بالموت. و لعلكم ستنزعجون أن قلت لكم أن فزعي من سكرات الحياة أكبر و أكثر و شديد الألم. فان الله يقول “ وجاءت سكرة الموت بالحق “ أما سكرات الحياة التي أعاني منها فهي دائماً ظالمة و مظلمة.أن للموت سكرة ثم حشرجة......أما الحياة فأني أشعر بأني سابحاً بين سكرة و سكرة ، و ليس بينهم الا الحشرجة.كنت في زيارة الي طبيبتي اليوم، و تطرق بينا الحديث الي الموت و الحياة، و هذا الموضوع من النادر أن يتحدث فيه الناس هنا “بالنرويج”. و لقد كان محور حديث الطبيبة عن الموت ، و رأيت في عينيها التيه و الضبابية حيث انها و بحكم عملها تعرف الموت من الناحية البيولوجية أو العضوية، أما من الناحية الدينية أو الفكرية فقد بدت فيها و كأنها انسانة ضلت الطريق أو بمعني أصح لا تعرف الطريق الي الطريق.قلت لها : أننا مثل شموع تحترق لتصل لنهايتها، بعضنا يحترق بسرعة و ينتهي بسرعة لانه شمعة قدر لها صانعها أن تكون قصيرة، و بعضنا شمعة أطول تأخذ وقتاً أطول لتحترق و تنتهي و هذه كانت أرادة صانعها.فقالت : أهكذا !!....ثم سألتني : و نذهب هكذا الي الفناء و اللا شئ؟؟قلت : بالطبع لا..... أنا لم أقل هذا أننا نتحول الي شمع منصهر، يستطيع أن يجمعه صانع الشمع ليصنع منه شمعاً جديداً. أما روح الشمعة التي أحترقت فقد تبخرت وولدت حرارة في المكان.سالتني : و ماذا عن هذه الحرارة؟؟قلت : أنها الذكري التي نتركها في الآخريين أنها روحنا التي ستذهب في يوماً من الأيام، و تبقي ذكرها لتدفئ الآخريين مثلما بقيت هذه الحرارة لفترة في المكان.سكتت لحظات، ثم سألتني مجدداً : و لم كل هذا الأحتراق؟؟ أهو نوعاً من العبث؟؟؟قلت لها بثقة : لا....طبعاً ، ما هذا عبثاً ، أنه الحق الذي لا نعرف قيمته. أننا كما قلت مسبقاً كالشمع، نحترق لنضئ، و قيمة الشمعة في المقدار الذي تستطيع أن تضيئه، و كذلك الأنسان، أنظري الي نفسك و أنظري الي حياتك، كم هو المقدار الذي تضيئنه أنتي في هذه الحياة؟ و لا تنتظري أن يجيب أحد علي سؤالك هذا، بل يجب الا تلتفتي لأي إجابة لم تصدر عنك، لأنكي أنتي الوحيدة التي تستطيع أن تقدري مقدار أعمالك و النية الحقيقية التي دفعتك لعمل ما عملتيه أو أضأت ما قد أضاءتيه.سار الصمت بيننا للحظات، رأيتها فيها غارقة في أفكارها، حتي رفعت رأسها و سألتني في عجل : أتؤمن بوجود الله؟و لم أرد أن أدع لحظة تفصل بين سؤالها و إجابتي فأجبتها علي الفور و بشكل قاطع : نعم أومن بوجود الله بشدة.و رأيتها تعود الي السباحة و الغرق في أفكارها، فأكملت مترجماً لها الآية الكريمة : “ و الذين يذكرون الله قياماً و قعوداً و علي جنوبهم و يتفكرون في خلق السموات و الأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار “. و رأيت التأثر قد ظهر عليها جلياً بعد الترجمة و الشرح للآية الكريمة ، فقالت لي بصوتاً ينبض بالصدق “ و أن أشعر بداخلي بهذا الوجود لله في كل شئ”و ما أن غادرت مكتب هذا الطبيبة حتي وجدتني أسبح في بحار و محيطات أفكاري كعادتي، و أعود و أسال نفسي الكثير و الكثير، و مع الألم الذي أشعر به أجد راحة غريبة تجتاحني بعد حديثي معها و نظرت الي السماء فرأيت السحب تسبح في جمالاً صامتاً و الشمس تبعث بأشعتها علي أستحياء و نسيم عليل يقبل وجهي، و سمعت الآية الكريمة “ربنا ما خلقت هذا باطلاً “ تبض في خلجات نفسي، و صوتاً آتياً من بعيد يناديني “ وجاءت سكرة الموت بالحق “....... فقلت لنفسي “ أنني سأحاول بكل الطرق أن أكون شمعة طيبة ترسل ضوءاً ذكياً، و تبعث دفئاً حنياً لكل من تعرفه و لمن لا تعرفه. أنني سأكمل طريقي متقلباً بين سكرات الحياة حتي تأتي سكرات الموت، و سأكمل أحتراقي و لكن لابد أن يكون كل هذا بالحق و يعود بالنفع علي الآخرين”ربي ما خلقت هذا باطلاً و ما خلقتني لأكون عدماً تافهاً، لقد خلقتني و أودعت فيّ سراً ، و هأنا ذا يا ربي إليك آتياً، فتقبلني يا رب برحمتك لا بعدلك، فأن رحمتك وسعت كل شئ. آمين يا رب العالمين
No comments:
Post a Comment